سورة القصص - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


قلت: جملة {يسعى}: حال من {رجل}؛ لأنه وصف بالجار.
يقول الحق جل جلاله: {فأصبح} موسى {في المدينةِ} أي: مصر {خائفاً} على نفسه من قتله؛ قَوَداً بالقبطي، وهذا الخوف أمر طبيعي لا ينافي الخصوصية، {يترقبُ}: ينتظر الأخبار عنه، أو ما يقال فيه، أو يترصد الاستفادة منه. وقال ابن عطاء: خائفاً على نفسه، يترقب نصرة ربه، {فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه}: يستغيثه، مشتق من الصراخ؛ لأنه يقع في الغالب عند الاستغاثة. والمعنى: أن الإسرائيلي الذي خلصه موسى استغاث به ثانياً من قبطي آخر، {قال له موسى} أي: للإسرائيلي: {إنك لغويٌّ مبين} أي: خال عن الرشد، ظاهر الغي، فقد قاتلتَ بالأمس رجُلاً فقتلتُه بسببك. قال ابن عباس: أُتِي فرعون، فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا منا رجلاً، فالقصاص، فقال: ابغُوني القاتل والشهود، فبينما هم يطلبون إذ مر موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً آخر، يريد أن يسخره، فاستغاث به الإسرائيلي على الفرعوني، فوافق موسى نادماً على القتل، فقال للإسرائيلي: إنك لغوي مبين.
{فلما أن أرادَ} موسى {أن يبطش بالذي}؛ بالقبطي الذي {هو عدو لهما}؛ لموسى وللإسرائيلي؛ لأنه ليس على دينهما، أو: لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل، أي: فلما مدّ موسى يده؛ ليبطش بالفرعوني، خشي الإسرائيلي أن يريده، حين قال: {إنك لغوي مبين}، فقال: {يا موسى أتريدُ أن تقتلني كما قتلتَ نفساً بالأمس}، يعني القبطي، {إنْ} ما {تريدُ إلا أن تكون جباراً}؛ قتالاً بالغضب، {في الأرض}؛ أرض مصر، {وما تريدُ أن تكون من المصلحين} في كظم الغيظ.
وقيل: القائل: {يا موسى أتريد...} إلخ، هو القبطي، ولم يعلم أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس، ولكن لما قصد أن يمنعه من الإسرائيلي استدل على أن الذي قتل صاحب هذا الرجل بالأمس هو موسى، فلما ذكر ذلك شاع في أفواه الناس أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس، فأمسك موسى عنه، ثم أخبر فرعون بذلك؛ فأمر بقتل موسى.
{وجاء رجلٌ من أقصى المدينة}؛ من آخرها، واسمه: حزقيل بن حبورا، مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون، {يسعى}: يُسرع في مشيه، أو: يمشي على رجله، {قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك}، أي: يتشاورون في قتلك، ويأمر بعضهم بعضاً بذلك. والائتمار: التشاور، {فاخْرجْ} من المدينة، {إني لك من الناصحين}، فاللام في {لك}: للبيان، وليس بصلة؛ لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، إلا أن يُتَسَامحَ في المجرور، {فخرج منها}؛ من مصر {خائفاً يترقّبُ}: ينتظر الطلب ويتوقعه، {قال ربّ نجني من القوم الظالمين}؛ قوم فرعون. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية دليل على أن الخوف عند الدواهي الكبار لا ينافي الخصوصية؛ لأنه أمر جِبِلِّي، لكنه يخف ويهون أمره، وفيها دليل على جواز الفرار من مواطن الهلاك، يفرّ من الله إلىلله، ولا ينافي التوكل، وقد اختفى صلى الله عليه وسلم من الكفار بغار ثور، واختفى الحسن البصري من الحَجَّاج، عند تلميذه حبيب العجمي.
وفيها أيضاً دليل على أن المعصية قد تكون سبباً في نيل الخصوصية، كأكل آدم من الشجرة، كان سبباً في نيل الخلافة، وعُمْرَةِ الأرض، وما نشأ من صُلبه من الأنبياء والأولياء وجهابذة العلماء، وكقتل موسى عليه السلام نفساً لم يُؤمر بقتلها، كان سبباً في خروجه للتربية عند شعيب عليه السلام، وتهيئته للنبوة والرسالة والاصطفائية، فكل ما يُوجب التواضع والانكسار يورث التقريب عند الملك الغفار، والحاصل: أن من سبقت له العناية، ونال من الأزل مقام المحبوبية؛ صارت مساوئه محاسن، ومن سبق له العكس صارت محاسنه مساوئ. اللهم اجعل سيئاتنا سيئات من أحببت، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت. وفي الحديث: «إذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب».
قال في القوت: واعلم أن مسامحة، الله عز وجل لأوليائه- يعني: في هفواتهم- في ثلاث مقامات: أن يقيمه مَقَامَ حَبيبٍ صَديقٍ، لِمَا سبق من قدم صدق، فلا تنقصه الذنوب؛ لأنه حبيب. المقام الثاني: أن يقيمه مقام الحياء منه، بإجلال وتعظيم، فيسمح له، وتصغر ذنوبه؛ للإجلال والمنزلة، ولا يمكن كشف هذا المقام، إلا أنَّا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر طائفة فقال: «يدفع عنهم مساوئ أعمالهم بمحاسن أعمالهم» المقام الثالث: أن يقيمه مقام الحزن والانكسار، والاعتراف بالذنب والإكثار، فإذا نظر حزنه وهمه، ورأى اعترافه وغمه، غفر له؛ حياء منه ورحمة. اهـ. وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: {ولما توجَّه} موسى {تلقاءَ مَدْينَ}؛ نحوها وجهتها.
ومدين: قرية شعيب، سُميت بمدين بن إبراهيم، كما سميت المدائن باسم أخيه مدائن، ويقال له أيضاً: مدان بن إبراهيم، ولم تكن مدين في سلطان فرعون، وبينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام، ولعله إنما لم يتسلط عليها؛ لِمَا وصله من خبر إهلاك أهلها لما طغوا على أنبيائهم، فخاف على نفسه. قال ابن عباس: خرج موسى، ولم يكن له علم بالطريق إلا حسن الظن بربه.
{قال عسى ربي أن يهديني سواءَ السبيل} أي: وسطه ونهجه. فلما خرج، عَرَض له ثَلاَثُ طرق، فأخذ في أوسطها، وجاء الطلاب عَقِبَهُ، فأخذوا في الآخَرَيْنِ. رُوي أن مَلكاً جاءه على فرس بيده عَنَزَة، فانطلق به إلى مدين. ورُوي أنه خرج بلا زاد ولا درهم، ولا ظهر، ولا حِذاء- أي: نعل-، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، فما بلغ مدين حتى وقع خُفُّ قَدَمِهِ، وخضرة البقل ترى على بطنه.
{ولما وَرَدَ}؛ وصل {ماء مدين}؛ بئراً لهم، {وجد عليه}؛ على جانب البئر {أُمّةً}؛ جماعة كثيرة {من الناس}؛ من أناس مختلفين {يسقون} مواشيهم، {ووجد من دونِهِمُ}؛ في مكان أسفل من مكانهم {امرأتين تَذُودَان}: تطردان غَنَمَهُمَا عن الماء، حتى تَصْدُرَ مواشي الناس ثم تسقيان؛ لأن علىلماء من هو أقوى منهما، فلا يتمكنان من السقي. أو: لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم. والذود: الطرد والدفع.
{قال} لهما موسى: {ما خطبُكما}: ما شأنكما لا تسقيان؟ والأصل: ما مخطوبكما، أي: مطلوبكما، فسمي المطلوب خَطْباً، {قالتا لا نسقي} غنمنا {حتى يُصْدِرَ الرّعَاءُ}، أي: يصرفوا مواشيهم، يقال: أصدر عن الماء وصدر، والمضارع: يَصْدُر ويَصْدِر، والرعاء: جمع راع، كقائم وقيام، والمعنى: لا نستطيع مزاحمة الرجال، فإذا صدروا سقينا مواشينا، {وأبُونا شيخ كبير} السن، لا يمكنه سقي الأغنام وهو شعيب بن نويْب بن مدين بن إبراهيم- عليهما السلام- وقيل: هو يثرون ابن أخي شعيب، وكان شعيب قد مات بعدما كفَّ بَصَرُهُ، ودفن بين المقام وزمزم. والأول أصح وأشهر.
{فسقى لهما} أي: فسقى غنمهما لأجلهما؛ رغبة في المعروف وإغاثة الملهوف، رُوي أنه نحى القوم عن رأس البئر، وسألهم دلواً، فأعطوه دلوهم، وقالوا: استق به، وكانت لا ينزعها إلا أربعون، فاستقى بها، وصبَها في الحوض، ودعا بالبركة. وقيل: كانت آبارهم مغطاة بحجار كبار، فعمد إلى بئر، وكان حجرها لا يرفع إلا جماعة، فرفعه وسقى للمرأتين. ووجه مطابقة جوابهما سؤاله: أنه سألهما عن سبب الذود، فقالتا: السبب في ذلك أن امرأتان مستورتان ضعيفتان، لا نقدر على مزاحمة الرجال، ونستحي من الاختلاط بهم، فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا.
وإنما رضي شعيب عليه السلام لابنيته بسقي الماشية؛ لأن الأمر في نفسه مباح مع حصول الأمن، وأما المروءة فعادات الناس فيها متباينة، وأحوال العرب فيها خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر، خصوصاً إذا كانت الضرورة. قاله النسفي. قلت: وقد كنت أعترض على أهل الجبل رَعْيَ النِّساءِ المواشي حتى تذكرت قضية ابنتي شعيب، لكن السلامة في زماننا هذا حبس النساء في الديار؛ لكثرة أهل الفساد.
{ثم} لما سقى لهما {تولى إلى الظل}؛ ظل شجرة. عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله؛ قال: أحييت ليلتين على جمل لي، حتى صبّحْت مدين، فسالت عن الشجرة التي أوى إليها موسى، فإذا هي شجرة خضراء، فأخذ جملي يأكل منها ثم لفظها. اهـ. وفي الآية دليل على جواز الاستراحة والاستظلال في الدنيا، بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة، وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله.
ثم بث شكواه لمولاه {فقال ربِّ إِني لِمَا أنزلتَ إليَّ من خيرٍ} قليل أو كثير {فقير}؛ محتاج. قال ابن عباس: لقد قال ذلك وإن خضراء البقل لتتراءى في بطنه، من الهزال. قيل: لم يذق طعاماً منذ سبعة أيام، وقد لصق بظهره بَطْنُهُ، وما سأل الله تعالى الأكلة. وفي هذا تنبيه على هوان الدنيا على الله تعالى. وقال ابن عطاء: نظر من العبودية إلى الربوبية، وتكلم بلسان الافتقار، لما ورد على سره من الأنوار. اهـ.
الإشارة: ولما توجه القلبُ تلقاء مَدْيَنِ المآرب، ومنتهى الرغائب- وهي الحضرة القدسية- قال: عسى ربي أن يهديني سواء السبيل، أي: وسط الطريق التي توصل إليها، وهو شيخ التربية. ولَمَّا ورد مناهله، ومحلَ شربه وجد عليه أمة من الناس يسقون قلوبهم من شراب تلكَ الخمرة، ويطلبون مثل ما يطلب، فإن كان قوياً في حاله؛ وصل من كان ضعيفاً وسقى له، ثم نزل إلى ظل المعرفة، في نسيم برد الرضا والتسليم، قائلاً، بلسان التضرع، سائلاً من الله المزيد: ربِّ إني لما أنزلت إليّ من خير الدارين، وغنى الأبد، فقير محتاج إلى مزيد الفضل والكرم.
وقال في لطائف المنن: {ثم تولى إلى الظل}؛ قصداً لشكر الله تعالى على ما ناله من النعمة- يعني: نعمة الظل الحسي- وجعله أصلاً في استعمال الطيبات، وتناولها بقصد الشكر، ومثله في التنوير. وفي سنن أبي داود عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «كان صلى الله عليه وسلم يُسْتعذب له الماء من بُيوت السُّقيا»، قال ابن قتيبة: هي عَيْنٌ، بينها وبين المدينة يومان. اهـ. وكان الشيخ ابن مشيش يقول لأبي الحسن رضي الله عنه: (يا أبا الحسن، بَرِّد الماءَ؛ فإن النفس إذا شربت الماء البارد؛ حمدت الله بجميع الجوارح، وإذا شربت الماء السخن؛ حمدت الله بكزازة).


قلت: {تمشي}: حال من {إحداهما}، و{على استحياء}: حال من ضمير {تمشي}، أي: تمشي مستحيية. و{القصص}: مصدر، سُمِّيَ به المقصوص.
يقول الحق جل جلاله: {فجاءته إحداهما}؛ وهي التي تزوجها، وذلك أنه لما سقى لهما رجعا إلى أبيهما بغنمها بِطاناً حُفَّلاً، فقال لهما: ما أعجلكما؟ فقالتا له: وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا؛ فسقى لنا أغنامنا، فقال لإحداهما: أدعيه، فجاءته {تمشي على استحياء} قد سترت وجهها بكفها، واستترت بكُمِّ درعها. وهذا دليل على كمال إيمانها وشرف عنصرها؛ لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها، ولم تعلم أيجيبها أم لا؟ فقالت: {إن أبي يدعوك ليجزيك أجرَ ما سَقيت لنا}، {ما} مصدرية، أي: أجر سُقْيَاك لنا، فتبعها موسى، فألزقت الريح ثوبها بجسدها، فوصفته، فقال لها: امشي خلفي، وانعتي الطريق، فإننا بَني يعقوب، لا ننظر إلى أعجاز النساء.
{فلما جاءه وقصَّ عليه القَصص}، أي: قصته وأحواله مع فرعون، وكيف أراد قَتْلَهُ، {قال} له: {لا تخفْ نجوتَ من القوم الظالمين}؛ فرعون وقومه؛ إذ لا سلطان له على أرضنا- مدين-، أو: قَبِلَ الله دعاءك في قولك: {رب نجني من القوم الظالمين}. وفيه دليل على العمل بخير الواحد، ولو أنثى، والمشي مع أجنبية على ذلك الاحتياط والتورع. قاله النسفي. وفيه نظر؛ لعصمة الأنبياء- عليهم السلام-، وما أخذ الأجر على البر والمعروف؛ فقيل: لا بأس به عند الحاجة، كما كان لموسى عليه السلام، على أنه رُوي أنه لمّا قالت له: {ليجزيك}؛ كره ذلك. وإنما أجابها لئلا يخيب قصدها؛ لأن للقاصد حرمة.
ولما وضع شعيب الطعام بين يديه؛ امتنع، فقال شعيب: ألست جائعاً؟ فقال: بلى، ولكن أخاف أن يكون عوضاً مما سَقَيْتُ لهما، وإنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا، ولا نأخذ على المعروف شيئاً، فقال شعيب: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا، فأكل.
{قالت إحداهما يا أبَتِ استأجرْهُ}، أي: اتخذه أجيراً لرعي الغنم. رُوي أن كبراهما كانت تسمى: صفراء، والصغرى: صفيراء، وقيل: صابورة و ليا. وصفراء هي التي ذهبت به، وطلبت إلى أبيها أن يستأجره، وهي التي تزوجها. قاله وهب بن منبه وغيره فانظره مع ما في حديث، قال صلى الله عليه وسلم: «تزوج صغراهما، وقضى أوفاهما» ويمكن الجمع بأن يكون زوّجه إحداهما ثم نقله إلى الأخرى.
ثم قالت التي طلبت استئجاره: {إن خيرَ من استأجرت القويُّ الأمين}، فقال: ما أَعْلَمَكِ بقوته وأمانته؟ فذكرت نزع الدلو، أو رفع الحجر عن البئر، وأمْرها بالمشي خلفه. وفي رواية عند الثعلبي. أما قوته: فإنه عمد إلى صخرة لا يرفعها إلا أربعون رجلاً، فرفعها عن فم البئر.
ثم ذكرتْ أمر الطريق. وقولها: {إنَّ خيرَ من استأجرت...} إلخ: كلام جامع؛ لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان؛ الكفاية والأمانة، في القائم بأمرك، فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقيل: القوي في دينه، الأمين في جوارحه. وقد استغنت بهذا الكلام، الجاري مجرى المثل، عن أن تقول: استأجره لقوته وأمانته.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب، وصاحب يوسف في قوله: {عسى أَن يَنفَعَنَآ} [يوسف: 21]، وأبو بكر في استخلافه عمر.
{قال} شعيب لموسى- عليهما السلام-: {إني أُريد أن أُنكِحَك}: أُزوجك {إحدىَ ابنتي هاتينِ}، وقوله: {هاتين} يدل على أن له غيرهما. وهذه مواعدة منه، لا عقد، وإلا لقال: أنكحتك. {على أن تأجُرَنِي} أي: تكون أجيراً لي، من أجرته: إذا كنت له أجيراً {ثمانِيَ حِجَجٍ}؛ سنين والحجة: السنة. والتزوج على رعي الغنم جائز في شرعنا، على خلاف في مذهبنا. {فإِن أتممتَ عشراً} أي: عشر حجج {فمن عندك} أي: فلذلك تفضلٌ منك، ليس بواجب عليك، أو: فإتمامه من عندك، ولا أحتمه عليك. {وما أريد أن أشق عليك} بإلزام أتم الأجلين. من المشقة، {ستجدني إن شاء الله من الصالحين} في حسن المعاملة، والوفاء بالعهد، أو مطلقاً. وعلق بالمشيئة، مراعاة لحسن الأدب مع الربوبية.
{قال} موسى عليه السلام: {ذلك} العهد وعقد الأجرة {بيني وبينك} أي: ذلك الذي قُلْتَهُ، وشارطتني عليه، قائم بيننا جميعاً، لا يخرج واحد منا عنه. ثم قال: {أيَّما الأجلين قضيتُ} أي: أيُّ الأجلين؛ قضيت من الأجلين: العشر أو الثماني، {فلا عدوان عَلَيّ} أي: لا يتعدى عليّ في طلب الزيادة عليه، قال المبرد: قد علم أنه لا عدوان عليه في إتمامهما، ولكن جمعهما ليجعل الأقل كالأتم في الوفاء، وكما أن طلب الزيادة على الأتم عدوان فلذلك طلب الزيادة على الأقل. {والله على ما نقول وكيل} أي: رقيب وشهيد.
واختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح على قولين: أحدهما: أنه لا ينعقد إلا بشاهدين، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك: ينعقد بدون شهود؛ لأنه عَقْدُ معاوضة، فلا يشترط فيه الإشهاد، وإنما يشترط فيه الإعلان، والإظهار بالدف والدخان ليتميز من السفاح، ويجب عند الدخول.
رُوي أن شعيباً كانت عنده عصِيّ الأنبياء- عليهم السلام-، فقال لموسى بالليل: ادخل ذلك البيت فخذ عصاً من تلك العصي، فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة، ولم يزل الأنبياء- عليهم السلام- يتوارثونها، حتى وقعت إلى شعيب، فلما أخذها، قال له شعيب: ردها وخذ غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات.- وفي رواية السدي: أمر ابنته أن تأتيه بعصا فجاءته بها، فلما رآها الشيخ قال: آتيه بغيرها، فألقتها لتأخذ غيرها، فلا تصير في يده إلا هي، مراراً، فرفعتها إليه، فعلم أن له شأناً.
ولما أصبح قال له شعيب: إذا بلغتَ مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك، فإن الكلأ، وإن كان بها أكثر، إلا أن فيها تنيناً، أخشاه عليك وعلى الغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها، فمشى على أثرها، فإذا عشب وريف لم ير مثله، فنام، فإذا التنين قد أقبل، فحاربته العصا حتى قتلته، وعادت إلى جنب موسى دامي، فلما أبصرها دامية، والتنينَ مقتولاً؛ ارتاح لذلك. ولما رجع إلى شعيب بالغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن، وأخبره موسى، فرح، وعلم أن لموسى شأناً، وقال له: إني وهبت لك من نتاج غنمي، هذا العام، كُلَّ أَدْرَعَ وَدَرْعَاءَ- أي: كل جدي أبلق، وأثنى بلقاء- فأوحى الله تعالى إلى موسى في المنام: أن اضرب بعصاك الماء الذي تسقى منه الغنم، فضرب، ثم سقى الأغنام، فوضعت كلها بلقاء، فسلمها شعيب إليه.
وذكر الإمام اللجائي في كتابه (قطب العارفين): أن موسى عليه السلام انتهى، ذات يوم، بأغنامه إلى واد كثير الذئاب، وكان قد بلغ به التعب، فبقي متحيراً، إن اشتغل بحفْظ الغنم عجز عن ذلك؛ لغلبة النوم عليه والتعب، وإن هو طلب الراحة، وثبَت الذئابُ على الغنم، فرمى السماء بطرفه، وقال: إلهي إنه أحاط علمك، ونفذت إرادتك، وسبق تقديرك، ثم وضع رأسه ونام. فلما استيقظ؛ وجد ذئباً واضعاً عصاه على عاتقه، وهو يرعى الغنم، فتعجب موسى من ذلك، فأوحى الله إليه: يا موسى؛ كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد. قال: فهذه إشارة تدل على أن: مَنْ هَرَبَ مِنَ الله إلى الله؛ كفاه الله، عز وجل، مَنْ دُونَهُ. اهـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: فجاءته- أي: القلب- إحدى الخصلتين؛ الفناء والبقاء، تمشي على مهل وقدر؛ فإن الوصول إلى المقامات إنما يكون بتدريج، على حسب القَدَر السابق. قالت إحدى الخصلتين: إن ربي يدعوك إلى حضرته؛ ليجزيك أجر ما سقيت، واستعملت في جانب الوصول إلينا. فلما جاءه، أي: وصل إليه، وتمكن منه، وقص عليه القصص، وهو ما جرى له مع نفسه وجنودها من المجاهدات والمكابدات، قال: لا تخف اليوم، حين وصلت إلينا، نجوت من القوم الظالمين، قالت إحداهما: يا رب استأجره في العبودية شكراً، إن خير من استأجرت القوي الأمين؛ لأن عمله بالله، محفوفاً برعاية الله، قال: إني أريد أن أعطيك إحدى الخصلتين، إما الإقامة في الفناء المستغرِق، أو الرجوع إلى البقاء المستفيق، لتقوم بالأدب على ان تخدم ثماني حجج، فإن أتممت عشراً، لزيادة التمكين، فمن عندك، فأقل خدمة المريد للشيخ ثماني سنين، ونهايتها نهاية التمكين. قال الورتجبي: لأن شعيباً، عليه السلام رأى بنور النبوة أن موسى عليه السلام يبلغ درجة الكمال في ثماني حجج، ولا يحتاج إلى التربية بعد ذلك، ورأى أن كمال الكمال في عشر حجج؛ لأنه رأى أن بعد العشرة لا يبقى مقام الإرادة، ويكون بعد ذلك حراً، ولذلك قال: وما أريد أن أشق عليك. اهـ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8